المعجزة الخارقة
كما أيد الله سبحانه رسوله محمداً r بالقرآن الذي هو أعظم بيناته، فقد أيده بمعجزاتٍ خارقة للعادة أجراها على يده وشاهدها المعاصرون له من أصحابه وأعدائه ، فكانت دليلاً للجميع على صدقه r فيما بلّغ عن ربه، وعلى تأييد الله سبحانه له ، كما أن هذه الحوادث الخارقة التي وقعت لاتزال دليلاً بيناً لكل عاقل في أيّ زمان ومكان على صحة نبوة محمدٍ r ، لأنّها قد نُقلت إلينا نقلاً صحيحاً أميناً ، ووثقت توثيقاً بالغاً لا يوجد مثله في تاريخ الأمم قديمها وحديثها فكأن السامع لها يراها بين يديه آيةً بينةً تدل على صدق محمد r لدقة توثيقها فيطمئن بها قلبُه وعقُله .
دقة توثيق أخبار المعجزات (خوارق العادات) :
إن دلائل النبوة الخارقة للعادة قد سجلت في القرآن الكريم ، وفي كتب السنة النبوية المطهرة، بأدق طرق التوثيق والنقل ، فلننظر كيفية توثيقها في كليهما :-
أولاً : توثيق المعجزات في القرآن الكريم :
كانت معجزات النبي r (الخارقة للعادة) تحصل، فيراها العشرات والمئات وربما الالآف من أتباعه المؤمنين به r ، ومن أعدائه المعاندين له ، ثم ينزل القرآن العظيم ذاكراً لهذه الخوارق والحوادث مستخلصاً العبر منها ، لأنه كان ينزل منجماً حسب الأحداث .
وبعد نزول القرآن بذكر هذه الخوارق والحوادث صدقها المؤمنون وازدادوا إيمانا وثباتاً على دينهم ، ولم يتطرق إليهم أدنى شك في وقوع هذه الخوارق التي شاهدوها .
ولم يملك أعداؤه r سوى الصمت تجاه ما يسمعون من آيات القرآن التي تذكر تلك الخوارق والحوادث .
ولو افترضنا جدلاً أنَّها لم تقع لكان أعداء النبي r أول المُشنِّعين عليه بذلك، ولكانت فرصة سانحة ليثبتوا - حسب زعمهم – كذبه r (وحاشاه من ذلك) ، لاسيما مع حرصهم الشديد على تكذيبه وتوافر الدواعي لديهم لذلك، واجتماع هممهم للطعن في نبوته ، والقدح في صدق رسالته، والتشكيك في أخباره ، ولتشكك المسلمون في دينهم وارتدوا عنه .
لكن شيئاً من ذلك لم يقع ، بل ازداد المؤمنون إيماناً وثباتاً على دينهم وتصديقاً لما سجل في كتاب ربهم ، وصمت الكفار أمام ما شاهدوا من خوارق وقعت وسجلها القرآن فدخلوا في دين الله أفواجاً ، فعلمنا علماً يقينياً وقوع تلك الخوارق والحوادث المؤيدة للنبوة والرسالة والشاهدة بصدق النبي ورسالته، وعلمنا أن أولئك العشرات أو المئات أو الآلاف الذين كانوا يشاهدون المعجزة هم الموقعون على محضر المعجزة ، وهم الشهود المباشرون لها الشاهدون بصدق وقوعها.
محضر الخارقة المعجزة :
لقد كان ذكر القرآن الكريم لهذه الخوارق وتسجيله لها حين نزوله وسماع المئات والآلاف من المسلمين والكافرين لما ذكر فيه ، بمثابة محضر أقره جميع الحاضرين من المؤمنين والكافرين المشاهدين لتلك الخوارق والحوادث ، والسامعين لما سجل عنها في كتاب الله ، فكان ثبات المؤمنين على إيمانهم بمثابة التوقيع منهم على صدق ما سجل في القرآن ، كما كان سكوت الكافرين وعدم معارضتهم لما سجّل في القرآن ، بل وتحول الكثير منهم إلى الإيمان بمثابة التوقيع أيضاً على مطابقة القرآن لما شاهدوه في الواقع .
مثال في العهد المكي : حادثة انشقاق القمر
في العهد المكي طلب كفار قريش من النبي r أن يريهم آية (علامة على صحة نبوته) فشق الله له القمر نصفين، وذكر القرآن الكريم ذلك وسجّله. قال تعالى:﴿اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ(1) ﴾(القمر:1) .
فلو أن ذلك لم يحصل لتشكك المسلمون في دينهم وخرجوا منه، ولقال الكفار: إن محمداً يكذب علينا فما انشق القمر ولا رأينا شيئاً من ذلك، ولكن الذي حدث زاد المؤمنين إيماناً ، وتحير الكافرون أمام هذه المعجزة التي لم يملكوا سوى أن يفسروها بأنها سحر مستمر(1)) !!
قال تعالى:﴿اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ(1)وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ(2)وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ(3)﴾ (القمر:1-3)(2) .
التوثيق التاريخي لانشقاق القمر :
سجل تاريخ الهند اسم ملك من ملوكهم هو : (جاكرواني فرماس) وأنه شاهد حادثة انشقاق القمر ، فسجلت إحدى المخطوطات التاريخية الهندية مايلي :
"شاهد ملك ما جبار "مالابار" بالهند (جاكرواني فرماس) انشقاق القمر ؛ الذي وقع لمحمد، وعلم عند استفساره عن انشقاق القمر بان هناك نبوة عن مجيء رسول من جزيرة العرب، وحينها عين ابنه خليفة له ، وانطلق لملاقاته. وقد أعتنق الإسلام على يد النبي ، وعندما عاد إلى وطنه – بناءً على توجيهات النبي – وتوفي في ميناء ظفار"(3)وهذه المعلومات في مخطوطة هندية محفوظة في مكتبة دائرة الهند تحتوي على عدة تفصيلات أخرى عن (جاكرواني فرماس) .
وقد جاء في كتب الحديث ذكر الملك الهندي ؛ الذي وصل إلى النبي – r فِفي مستدرك الحاكم : "عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: ثم أهدى ملك الهند إلى رسول الله r – جرة فيها زنجبيل، فأطعم أصحابه قطعة قطعة، وأطعمني منها قطعة. قال الحاكم ولم أحفظ في أكل رسول الله r - الزنجبيل سواه"(4) .
ومن المعلوم أن هذا الملك قد صار صحابياً ؛ بملاقته الرسول – r –وإيمانه به وموته على ذلك .
وقد حفظت المراجع الإسلامية قصة هذا الصحابي الذي قدم من الهند. فذكره الإمام ابن حجر العسقلاني في الإصابة ، وفي لسان الميزان(5)وقال إن أسمه (سَرْبَانَك) وهذا هو الإسم الذي عرف به عند العرب .
مثال في العهد المدني : إرسال الرياح والجنود على الأحزاب :
اجتمع آلاف الكفار لغزو المدينة النبوية في معركة الأحزاب، فأرسل الله عليهم ريحاً باردةً أطفأت نيرانهم وكفأت قدورهم واقتلعت خيامهم وهدمت أبنيتهم وشردت خيولهم وإبلهم، وأرسل الله عليهم جنوداً لا تُرى لتزلزلهم حتى اضطروا للعودة من حيث جاءوا، وفكِّ الحصار عن المدينة النبوية ، وأنزل الله تعالى ذكر هذه الحادثة ممتّنٍاً على المؤمنين. قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا(9)﴾ (الأحزاب:9) .
ولو كانت هذه المعجزة لم تقع لتشكك المسلمون في القرآن ، وربما ارتدوا عن دينهم، وقالوا: كيف نصدق ما لم يقع؟! ولازداد الكفار عتواً ونفوراً ولقالوا: محمد يكذب علينا وعلى الناس!! ولكن شيئاً من ذلك لم يحصل ، بل ازداد المؤمنون إيماناً وثباتاً على دينهم، وصمت الكفار ، ثم دخل معظمهم بعد ذلك في دين الله أفواجاً، وبهذا يكون القرآن السجل الصادق - الذي لا يتطرق إليه شك - لما وقع من الخوارق والمعجزات التي أيد الله بها رسوله محمداً r .
حفظ القرآن (السجل الصادق للمعجزات) :
وعندما كان الوحي ينزل بالآيات القرآنية على رسول الله r كان يأمر بكتابتها فيتسابق المسلمون من أجل حفظها وكتابتها والتعبد بتلاوتها ونشرها بين الناس، وكان للنبي r كُتّاب يكتبون له الوحي حتى اكتمل نزول القرآن وكتبه المسلمون في المصحف ، ومن المصحف نسخت مصاحف كثيرة ووزعت في الأقطار آنذاك ، ثم في سائر أقطار العالم .
إن هؤلاء الصحابة الذين حفظ الله بهم القرآن ونقلوا هاتين الحادثتين حادثة انشقاق القمر ، وهزيمة الأحزاب بالرياح وغيرهما من خوارق العادات التي سجلها القرآن سواءً ممن كان مسلماً وقت وقوع الحادثة أو أسلم بعد ذلك ، كانوا يقرؤون القرآن صباح مساء ، في صلاتهم ومجالسهم وحلق علمهم ويدونونه ويحفظونه ويتدارسونه فيما بينهم ويتخلقون بأخلاقه ويتحاكمون إلى شريعته، مقرين به ومصدقين له، وعلموه لأبنائهم وأهاليهم ومن تَبِعَهم ، فمن المستحيل عقلاً أن يجتمعوا جميعاً على نقله وحفظه وهو لم يقع .
وقد حفظ الله القرآن في صدور هؤلاء الذين شاهدوا المعجزات وفي صُحُفهم ، وفي صدور أبنائهم وما دونوه من صحف آبائهم ، ونقله الآلاف وعشرات الآلاف بل والملايين وعشرات الملايين عبر العصور المتلاحقة مصدقين به .
ولقد أجمعت أمة العرب على النص القرآني الذي تلقته عن النبي r ، وجُمِعَ في عهد الخليفة الأول ، ونقلت تلك النسخة من بيته إلى بيوت الخلفاء الراشدين الثاني والثالث ، وعممت نسخته في زمن عثمان رضي الله عنه على سائر الأمصار والبلدان التي دخلت في دين الإسلام ، فتلقت الأمم في مشارق الأرض ومغاربها هذا المصحف عن أمة العرب ، وكتبته برسمه العثماني، وتعلمت نطقه العربي جيلاً بعد جيل ، على اختلاف لغات الشعوب الإسلامية التي شرحت القرآن بلغاتها المختلفة .
فترى المصحف الذي يقرؤه الصيني أو الروسي أو الأوربي أو الأمريكي أو الفارسي أو التركي أو الأفريقي أو العربي هو نفس المصحف الذي تذيعه إذاعة لندن أو إذاعة إسرائيل أو أي إذاعة أو محطة تلفزيون في العالم .
ولا يزال الملايين من أبناء المسلمين يتلقون القرآن مشافهة وقراءة وفق الرسم العثماني بسند متصل إلى النبي r ، عن أمين الوحي جبريل عليه السلام، عن رب العالمين سبحانه وتعالى .
وإذا أخذت نسخة من المصحف في أي زمان ومكان لوجدتها تحكي المعجزات كما هي لأن الله سبحانه قد تعهد بحفظ القرآن كما قال تعالى:﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(9)﴾ (الحجر:9)ولايزال المسلمون يحفظونه في الصدور والسطور ، والملايين منهم يحفظون القرآن عن ظهر قلب وعلى مستوى الحرف الواحد منه ، بل وعلى مستوى ضَبْط حركة الحرف الواحد. ولو فتحت أيّ مصحف على وجه الأرض سواء كان من المطبوع حديثاً أو من المخطوط قديماً، وفتحت سورة الأحزاب لوجدت الآية التاسعة منه تحكي قصة الرياح والجنود التي نصر الله بها محمداً r ، وبهذا تعلم ويعلم كل منصف أن القرآن الذي بين أيدينا هو الذي أنزل على محمدٍ r وسجّل معجزاته، فكأنك تراها الآن رأي العين .
ثانياً : توثيق هذه المعجزات في السنة النبوية :
وقد حفظت لنا كتب السنة النبوية الموثقة كثيراً من تفاصيل المعجزات التي سجلها القرآن، كما سجلت كثيراً من الخوارق والمعجزات التي لم تذكر في القرآن، وكان التوثيق في تلك الكتب بالغ الدقة ، لا يقبل تشكيك مشكك ، فكأنك ترى المعجزات المذكورة فيها رأي العين .
وذلك لأن النبي r كان محط أنظار أصحابه، الذين أمرهم الله بالاقتداء به في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ...﴾ (الأحزاب:21)،كما أمرهم الله بطاعته واتباع أمره واجتناب نهيه. قال تعالى:﴿...وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ...﴾ (الحشر:7)، وقال تعالى: ﴿... وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(56)﴾ (النور:56)، ولا تتحقق الأسوة والطاعة إلا بتتبع أقواله وأفعاله وأحواله r .
وكان r يحثهم على الأخذ عنه ومراقبة أفعاله ومتابعتها، كقوله r "عليكم بسنتي"(6)، وقوله"خذوا عني مناسككم"(7) ، وقوله :"صلوا كما رأيتموني أصلي"(
ونحو ذلك من النصوص التي تحث على ملاحظة أقواله وأفعاله r .
ولذلك كانت أعماله r وأقواله وحركاته وسكناته ومعجزاته الشاهدة بصدق رسالته محل مراقبة من أصحابه لأنها دين يُتلقى، ويتوقف دخولهم الجنة ، ونجاتهم من النار على اتباعه .
ولما كان الصحابة رضي الله عنهم هم الشهود المباشرون لتلك المعجزات النبوية والناقلون لها ، وجب علينا أن نعلم مكانتهم من الضبط والعدالة والتوثيق .
الصحابة حملة الدين الثقات :
أ- شهادة القرآن والسنة لهم :
لقد قيض الله لخاتم الأنبياء والمرسلين جيلاً من الصحابة الصادقين المؤهلين لحفظ الدين ، وأخبر سبحانه أنّه قد أعدّ هؤلاء الصحابة إعداداً إيمانياً رفيعاً. ليكونوا أهلاً لشرف الصحبة وحمل الرسالة. قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ(7)﴾ (الحجرات:7) .
وشهد الله عزوجل لهؤلاء الصحابة الكرام من مهاجرين وأنصار بصدق الإيمان فقال سبحانه :﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ(74)﴾(الأنفال:74) .
وأخبر سبحانه أنه قد رضي عنهم فقال:﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(100)﴾(التوبة:100) .
وقال تعالى مبيناً فضل المهاجرين والأنصار ومثنياً عليهم﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ(
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(9)﴾ (الحشر:8-9).
وقال تعالى عن أهل بيعة الرضوان(9)﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا(18)﴾ (الفتح:18)أي فعلم ما في قلوبهم من صدق النية والوفاء بالبيعة. وقال النبي r لأصحابه حينذاك : "أنتم خير أهل الأرض".(10)
واستخلفهم الله تعالى في الأرض لتمكين دينه ونشره بين الناس، كما قال تعالى مخاطباً نبيه وأصحابه :﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ...﴾ (النور:55).
كما قال تعالى : ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ(41)﴾ (الحج:41) .
وأثنى الله سبحانه عليهم فقال:﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ...﴾ (آل عمران:110)والخطاب في الآيات يدخل فيه الصحابة رضي الله عنهم دخولاً أولياً ، لأنهم أول من خوطب بهذه الآيات الكريمات من الأمة المحمدية ، ولتحقق التمكين لهم في الأرض كما وعدهم الله .
وجعل الله سبحانه الصحابة والأمة من بعدهم شهوداً على الأمم ، وذلك لفضلهم وخيريتهم كما قال تعالى:﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ... ﴾ (البقرة:143).
ومعنى الوسطية هنا كونهم عدولاً وأخياراً ، كما قال النبي r يُجَاءُ بِنُوحٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ : هَلْ بَلَّغْتَ ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ يَا رَبِّ ، فَتُسْأَلُ أُمَّتُهُ هَلْ بَلَّغَكُمْ فَيَقُولُونَ : مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ ، فَيَقُولُ : مَنْ شُهُودُكَ ؟ فَيَقُولُ : مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ ، فَيُجَاءُ بِكُمْ فَتَشْهَدُونَ. ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ r َ ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ قَالَ : عَدْلاً ، ﴿... لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ...﴾ (البقرة:143)(11)والصحابة أول الأمة دخولاً في هذه الآية .
وقال النبي r :- (خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم)(12).
وقال r : (لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ ولاَ نَصِيفَهُ).(13)
وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن الصحابة : "… كانوا خير هذه الأمة: أبرها قلوباً ، وأعمقها علماً ، وأقلها تكلفاً ، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه r ، ونقل دينه ، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فهم أصحاب محمد r وكانوا على الهدى المستقيم".(14)
وقال عبدالله ابن مسعود رضي الله عنه : "إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد ، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد r فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه ، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن ، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيئ".(15)
ب- شهادة الأمة بعدالة الصحابة :
قال الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمة الله عليه : "وقد أثنى الله – تبارك وتعالى– على أصحاب رسول الله r في القرآن والتوراة والإنجيل(16)، وسبق لهم على لسان رسول الله r من الفضل ما ليس لأحد بعدهم ، فرحمهم الله وهنَّأَهم بما آتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين ، أدَّوا إلينا سنن رسول الله r عامّاً وخاصاً وعزماً وإرشاداً ، وعرفوا من سُنَنه ما عرفنا وجهلنا، وهم فَوقَنا في كل علمٍ واجتهاد وورعٍ وعَقُلٍ وأمرٍ.(17)
وقال ابن أبي حاتم رحمه الله تعالى :-
فأما أصحاب رسول الله r فهم الذين شهدوا الوحي والتنزيل وعرفوا التفسير والتأويل ، وهم الذين اختارهم الله – عز وجل- لصحبة نبيه r ونصرته وإقامة دينه وإظهار حقه، فرضيهم له صحابة ، وجعلهم لنا أعلاماً وقدوة ، فحفظوا عنه r ما بلغهم عن الله – عز وجل – وما سنَّ وشَرَع وحَكَم وقضى ونَدَب وأَمَر ونَهى وحَظَرَ ، ووعوه وأتقنوه ، ففقهوا في الدين ، وعلموا أمر الله ونهيه ومراده ، بمعاينة رسول الله r ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب وتأويله ، وتلقفهم منه واستنباطهم عنه ، فشرفهم الله – عز وجل – بما مَنَّ عليهم وأكرمهم به من وَضْعِهِ إياهُم موضعَ القُدوة فنفى عنهم الشكَّ والكذب والغلط والرِّيبة والغَمْز ، وسمَّاهم عُدول الأمة ، فقال – عز وجل– في محكم كتابه : ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ .... ﴾ (البقرة:143) ففسر النبي r عن الله – عز ذكره – قوله (وسطاً) قال : "عدلاً"(18)فكانوا عدول الأمة وأئمة الهدى وحُجج الدين ونَقَلَة الكتاب والسنة ، ونَدَبَ الله – عز وجل – إلى التمسك بهديهم والجَرْيِ على منهاجهم ، والسلوك لسبيلهم ، والاقتداء بهم، فقال:﴿وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا(115)﴾(النساء:115)ووجدنا النبي r قد حضَّ على التبليغ في أخبار كثيرة ، ووجدناه يخاطب أصحابه فيها منها : أن دعا لهم فقال : (نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فحَفِظَهَا فَوَعَاهَا وحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ)(19) وقال r في خطبته : (فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ مِنْكُمْ الْغَائِبَ).(20) وقال r : (بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً…)(21)، ثم تفرقت الصحابة رضي الله عنهم في النواحي والأمصار والثغور وفي فتوح البلدان والمغازي والإمارة والقضاء والأحكام ، فَبَثَّ كل واحد منهم في ناحيته وبالبلد الذي هو به ما وعاه وحفظه عن رسول الله r ، وحكموا بحكم الله– عز وجل– وأمضوا الأمور على ما سنَّ رسول الله r ، وأفتوا فيما سئلوا عنه مما حضرهم من جواب رسول الله r عن نظائرها من المسائل ، وجرَّدوا أنفسهم - مع تَقْدُمة حُسْنِ النية والقربة إلى الله تَقَّدس اسمُه - لتعليم الناس الفرائض والأحكام والسنن والحلال والحرام حتى قبضهم الله – عز وجل – رضوان الله ومغفرته ورحمته عليهم أجمعين"(22).
ج- شهادة الأمم :
ولقد شهدت البشرية شعوباً وقبائل وأمماً – ممن احتك بهم الصحابة والتابعون – في شمال الأرض وجنوبها وشرقها وغربها بصدق ما أخبر به القرآن عن أولئك الصحابة الذين خَبَروهم(23) في حال السلم والحرب .
وبالرغم من أن الصحابة قد جاءوهم فاتحين مقاتلين ، إلا أنهم سرعان ما أحبوهم وتعلقت قلوبهم بهم ، بعد أن رأوهم في الصورة المثلى للمؤمن الصادق، ونقلت هذه الشعوب إلى أهلها وأبنائها وذراريها من بعدها حب أولئك الأصحاب ، فأنشأت علاقة الفتح في قلوب الأمم والشعوب والقبائل التي فتحت المحبة والمودة والتبجيل والثناء والتأسي الحسن بأولئك الأصحاب والتابعين الفاتحين .
وهذا بعكس ما شهد ويشهد به تاريخ البشرية من العلاقة السيئة المملوءة بالحقد والكراهية والبغضاء التي تنشأ بين الشعوب المَغْزُوَّة والجيوش الغازية .
والسر في ذلك هو أن هؤلاء الفاتحين ما جاءوا يريدون دنيا الناس ، ولكن جاءوا ليخرجوا هذه الشعوب – بإذن الله – من الظلمات إلى النور ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام متمثلين قول الله تعالى :﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(83)﴾ (القصص:83) .
وقوله سبحانه :﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ(110)﴾ (آل عمران:110).
وهذا الجيل الصادق من الصحابة ومن بعدهم ممن تبعهم بإحسان هم الذين رووا لنا ما شاهدوا من البينات والخوارق والمعجزات التي كانت سبباً في زيادة إيمانهم وتيقنهم من صدق الرسول r .