مقدمة:
من الحقائق التي قد تغيب عن بعض الأذهان أنه لا ينبغي لأحدٍ الاعتقاد بجواز وجود ترادف في ألفاظ الآيات القرآنية الكريمة، وهو ما ذهب إليه الإمامان ابن تيمية ومحمد عبده [ 10، 11] (1)وهو منطلق الحديث الحالي، فقد قمنا بمراجعة ما ورد في المعاجم اللغوية وشروح الآيات الكريمة، في محاولة لاستقراء أية فروق في الدلالة بين التعبيرين ( العُقم ) و ( العقر )، وهما تعبيران عريقان في اللغة العربية، ومعناهما عدم القدرة على الإنجاب، فلا تحمل المرأة ولا يولد للرجل، والصفتان هما: عاقر وعقيم، على الترتيب [ 12 16 ]. وبالرغم من اشتراكهما في المعنى، إلا أنه لم يرد ما يوضح بجلاء الفرق بين دلالة التعبيرين ( العقم ) و ( العقر ) في معاجم اللغة القديمة والحديثة حيث قيل: والعقر والعقر: العقم، وهو استعقام الرحم، وهو ألا تحمل [ 12 ].
وقيل: عقر وعقر وعقر، فهو عاقر: عقم، لم يولد [ 16 ]، وهذا وقد ورد التعبيران في آيات قرآنية عديدة، فورد التعبير ( عاقر )، وهو اشتقاق من التعبير الأول ( العقر )، في ثلاثة مواضع بالقرآن الكريم في سياق قصة زكريا عليه السلام، قوله تعالى: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) [آل عمران].
وقوله تعالى: كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً (
قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) [سورة مريم].
بينما ورد التعبير: ( عقيم )، وهو اشتقاق من التعبير الثاني: ( العقم )، في أربعة مواضع بالقرآن الكريم، واحد منها في سياق قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام، وهو قوله تعالى: فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) [سورة الذاريات].
والثلاثة مواضع الأخرى في قوله تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) [سورة الشورى].
وقوله تعالى: وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) [ سورة الحج].وقوله تعالى: وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) [سورة الذاريات].
وقد خلط بعض المفسرين أيضاً، بين مدلول الصفتين، في شروح الآيات، وذهبوا إلى أن (عاقر ) تعني ( عقيم ).
ففي سورة آل عمران ( 40 ) قال القرطبي: أي: عقيم لا تلد [ 3 ].
وقال الألوسي: والعاقر العقيم التي لا تلد، من العقر وهو القطع، لأنها ذات عقر من الأولاد [ 7 ].
وكذلك في سورة مريم ( 5 ، 8 ).
قال القرطبي: إن امرأته كانت عقيماً لا تلد [ 3 ].
وفي سورة الذاريات ( 29 ) قال الألوسي وأبو السعود: أي: أنا عجوز عاقر فكيف ألد [ 8 7 ].
وقد انعكس هذا الاضطراب في فهم الفرق بين مدلول الصفتين ( عاقر ) و( عقيم ) على ترجمة معاني القرآن الكريم لعبد الله يوسف علي [ 9 ]، حيث تم استخدام التعبير الإنجليزي (barren)، وهو يعني: قاحل ( صفة الأرض ) [ 17 19 ]، أو غير مثمر ( صفة الثبات)، أو عاقر [ 17 ]، أو عقيم [ 17 19 ]، وذلك للتعبير عن (عاقر) في سورتي آل عمران (40 )، ومريم ( 5 ، 8 )، وكذلك للتعبير عن ( عقيم ) في سورتي الذاريات ( 29 ) والشورى ( 50 )، بينما في قوله تعالى: عذاب يوم عقيم الحج ( 55 )، وردت الترجمة كالآتي: ( the penalty of a day of disaster) وكلمة (disaster) تعني كارثة أو نكبة [17 ]، وعليه فالترجمة تعني عذاب يوم الكارثة أو النكبة.
وفي قوله تعالى: الريح العقيم الذاريات ( 41 ). قيل: (the devastating wind)، وكلمة (devastate) تعني يدمر أو يخرب [ 17 ]، وعليه فالتعبير يعني: الريح المدمرة أو المخربة.
من المعلوم طبياً وجود مصطلحان في اللغة الإنجليزية هما (Infertility) و (sterility)، يشتركان في المعنى، وهو عدم القدرة على التناسل، إلا أنه أصبح لكل منهما لاحقاً دلالة مختلفة في مجال الطب، فالمصطلح الأول يعني حالة نسبية وقابلة للعلاج، بينما المصطلح الثاني يعني مطلق عدم القدرة على التناسل، أي: أنها حالة غير عكوس [ 21 25 ].
إن إدراك الفروق الدقيقة في دلالة الألفاظ في اللغة العربية ذو أهمية حيوية في هذا المجال، فبدونه لا يمكن اختيار اللفظ العربي الصحيح والمقابل للمصطلحات الطبية الإنجليزية، ولذلك يجد المرء اضطراباً في تعريب المصطلحين، مما يدل على عدم الوضوح في الفهم، حيث جعلت (sterility) بمعنى عقم [ 17 19 ] أو عقامة [ 18 ] و (sterile) بمعنى عقيم [ 17 19 ] أو عاقر [ 18 ]، أما (Infertility) فبمعنى عقر [ 19 ] أو عقم [ 18 ، 19 ] أو عدم الإخصاب [ 17 ]، (Infertile) عقيم أو عاقر [ 18 19 ] أو غير مخصب ( صفة للبيضة ) [ 17 ].
ويبقى ( العقم ) هو التعبير الشائع عن كل من التعبيرين في معظم الأحيان بين العامة والمتخصصين الذين قاموا بإنشاء الكثير من المراكز الطبية الحديثة في العالم العربي، والتي أطلق عليها مراكز العقم [ 26 31 ].
يذهب الباحث إلى أن التعبيرين ( العقم ) و ( العقر ) يشتركان في الدلالة على عدم القدرة على الإنجاب، فلا تحمل المرأة ولا يولد للرجل، وأن ل ( العقر ) مدى من الأقل إلى أشد، وأنه قابل للعلاج.
أما مطلق ( العقر )، وهو ( العقم )، فهو غير قابل للعلاج ولا يبرأ منه، فلا يولد للمصاب به أي طفل، ف ( العقم ) هو من ( العقر ) وهو أشده ومنتهاه وأي منهما من الممكن حدوثه قبل أن يولد للمرء أي طفل، أو بعد أن يولد للمرء وهذه الدلالات ثابتة منذ أمد طويل، كما تدل عليه اللغة والآيات الكريمة، وبقبول ذلك يمكن إعادة تدبر الآيات الكريمة بالنظر في حكمة ورود أي تعبير منهما في السياق، كما أنه يمكن مراجعة التعريف الطبي للمصطلحات الإنجليزية، وهي تعاريف مستحدثة.
وعليه: يذهب الباحث إلى أن (sterility) تعني ( عقم ) و(sterile) تعني ( عقيم )، ثم إن كلمة (Infertility) تعني ( عقر ) و(Infertile) تعني ( عاقر ).
وعليه: فإنه لا يجوز للأطباء ادعاء علاج ( العقم )، بل إن كان ما يعالج هو ( العقر ).
والأدلة على صحة هذا الرأي هي:
عدم القدرة على الإنجاب إما أن تكون نسبية ( العقر ) أو مطلقة ( العقم ):
( 1 ) ( العقم ) في اللغة:
(أ ) ( العقم ) و ( العقم ) بفتح العين وضمها [ 12 14، 16 ]: هزمة تقع في الرحم فلا تقبل الولد [ 12 ، 14 ]. عقم يعقم عقماً عقيم: كان به ما يحول دون الإنجاب، والجمع عقماء وعقام، وللمؤنث [ 16 ] عقائم وعقم [ 12 14 ، 16 ].
وأصل ( العقم ) في اللغة: القطع [ 12 ]. وقاله المفسرون، أيضاً، في شرح الآية ( 42 ) من سورة الشورى [ 3 ، 5 ، 6 ]، ومنه يقال الملك عقيم [ 3 ، 5 ، 12 14 ] لأنه تقطع فيه الأرحام بالقتل والعقوق [ 3 ، 5 ، 12 ] فلا ينفع فيه نسب لأن الأب يقتل ابنه على الملك [ 12 14 ].
ويلاحظ علاقة ذلك المدلول ل ( عقيم ) بالتعبير ( الأبتر ) والذي ورد في قوله تعالى: إن شانئك هو الأبتر ( 3 ) ]الكوثر ].
وقيل: إن أصل البتر: القطع [ 3 ، 6 ، 7 ]، يقال بترت الشيء بتراً قطعته [ 3 ، 6 ] قبل الإتمام [ 3 ].
والأبتر من الدواب: الذي لا ذنب له [ 3 ، 6 ، 7 ].
وكان العرب يقولون إذا مات الذكور من أولاد الرجل: قد بتر فلان [ 3 4 6 ]، فالأبتر من الرجال: الذي لا ولد له [ 3 ، 6 ]، أي: لا عقب له [ 4 ، 7 ]، فإذا هلك انقطع ذكره [ 3 7 ].
وكذلك كل أمر انقطع من الخير أثره فهو ابتر [ 3 ، 6 ].
وقال المفسرون في شرح الآية الكريمة: يعني بقوله جل ثناؤه: إن شانئك إن مبغضك [ 2 8 ] يا محمد وعدوك [ 2 ] ومبغض ما جئت به من الهدى والحق [ 4 ] هو الأبتر، أي: الأقل والأذل [ 2 ، 4 ] والمنقطع عقبه [ 2 ]، أي: الذي لا عقب له [ 2 ، 5 ، 6 ، 7 ، 8 ]، حيث لا يبقى منه نسل [ 5 ، 7 ، 8 ] أو ولد [ 2 ]، والمنقطع ذكره [ 4 ، 6 ] بعد موته [ 6 ]، فلا يبقى منه حسن ذكر [ 5 ، 7 ، 8 ]، فهو منقطع عن الخير على العموم، ومنع خيري الدنيا والآخرة [ 6 ].
وعليه، فإن كلاً من ( العقيم ) و ( الأبتر ) يدل على القطع والانقطاع، و( العقيم ) أشد، حيث لا يولد للمرء فهو مقطوع النسل، بينما ( الأبتر ) يولد له ولكن الذكور من أولاده يموتون في حياته، وقبل أن تكون لهم ذرية، فلا يعقبه أحد، فهو منقطع الذكر.
( ب ) في الحديث الشريف: ( العقل عقلان، فأما عقل صاحب الدنيا فعقيم، وأما عقل صاحب الآخرة فمثمر ).
والعقيم هاهنا الذي لا ينفع ولا يرد خيراً على المثل [ 12 ]، أي: أنه غير منتج [ 16 ]، ف (العقم ) يقطع الخير والإنتاج، والعقل العقيم لا يثمر كالإنسان العقيم لا نسل له.
( ج ) داء عقام وعقام:لا يبرأ [ 12 14 ]، ورجل عقام: رجل لا يولد له [ 12 14 ].
وقال أبو دهبل يمدح عبد الله بن الأزرق المخزومي:
عقم النساء فلا يلدن شبيهه إن النساء بمثله عقم [ 12 ]
وقد ورد هذا البيت في التفاسير في شرح الآية ( 50 ) من سورة الشورى [ 3 ، 6 ].
ويلاحظ أن الشاعر قد أتى بلفظي ( عقم ) و ( عقم ) من مادة ( عقم )، وهذا يتفق مع ما يذهب إليه الباحث لأنها تفيد مطلق عدم قدرة النساء على ولادة شبيهة لأن ( العقم ) لا يبرأ منه، فلم يأت الشاعر بالمشتقات من مادة ( عقر ) لأن ( العقر ) من الممكن زواله وولادة شبيهة.